فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{ذلكم} إشارة إلى البلاء الحسنِ ومحلُّه الرفعُ على أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ وقوله تعالى: {وَأَنَّ الله مُوهِنُ كَيْدِ الكافرين} بالإضافة معطوفٌ عليه أي المقصِدُ إبلاءُ المؤمنين وتوهينُ كيدِ الكافرين وإبطالُ حِيلِهم، وقيل: المشارُ إليه القتلُ والرميُ والمبتدأ الأمر، أي القتل فيكون قوله تعالى: {وَأَنَّ الله} الآية، من قبيل عطفِ البيانِ، وقرئ {مُوهِّن} بالتنوين مخففًا ومشددًا ونصبِ كيد الكافرين. اهـ.

.قال الألوسي:

{ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)}
معطوف عليه أي المقصد إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين وإبطال حيلهم، وقيل: المشار إليه القتل أو الرمي والمبتدأ الأمر أي الأمر ذلكم أي القتل أو الرمي فيكون قوله تعالى: {وَأَنَّ الله} إلخ من قبيل عطف البيان، وقيل: المشار إليه الجميع بتأويل ما ذكر.
وجوز جعل اسم الاشارة مبتدأ محذوف الخبر وجعله منصوباف بفعل مقدر.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر {مُوهِنُ} بالتشديد ونصب كيد.
وقرأ حفص عن عاصم بالتخفيف والاضافة وقرأ الباقون بالتخفيف والنصب. اهـ.

.قال القاسمي:

{ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} [18].
{ذَلِكُمْ} إشارة إلى البلاء الحسن، أو القتل، أو الرمي. ومحله الرفع، أي: المقصود أو الأمر ذلكم.
وقوله: {وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} معطوف عليه، أي: مضعف بأس الكافرين وحيلهم بنصركم وخذلانهم، أي: أن المقصود إبلاء المؤمنين، وتوهين كيد الكافرين.
قال ابن كثير: هذا بشارة أخرى، مع ما حصل من النصر، فإنه أعلمهم بأنه مضعف كيد الكافرين فيما يستقبل، مصغر أمرهم، وأنه في تبار ودمار، أي: وقد وجد المخبر على وفق الخبر، فصار معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، ولله الحمد والمنة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)}
الإشارة بـ {ذلكم} إلى البلاء الحسن وهذه الإشارة لمجرد تأكيد المقصود من البلاء الحسن وأن ذلك البلاء علة للتوهين.
واسم الإشارة يفتتح به الكلام لمقاصد يجمعها التنبيه على أهمية ما يرد بعده كقوله تعالى: {هذا وإن للطاغين لشر مئابٍ} [ص: 55] ويجيء في الكلام الوارد تعليلًا كقوله تعالى: {ذلك بما قدمت أيديكم} [الأنفال: 51].
وعليه فاسم الإشارة هنا مبتدأ حذف خبره وعطف عليه جملة: {وأن الله موهن كيد الكافرين}.
وقوله: {وأن الله} بفتح همزة (أن)، فما بعدها في تأويل مصدر، مجرور بلام التعليل محذوفة، والتقدير ولتوهين كيد الكافرين.
ويجوز أن تكون الإشارة بـ {ذلكم} إلى الأمرين، وهو ما اقتضاه قوله: {وما رميتَ إذ رميتَ ولكن الله رمى} [الأنفال: 17] من تعليل الرمي بخذل المشركين وهزمهم وإبلاء المؤمنين البلاء الحسن.
وإفراد اسم الإشارة مع كون المشار إليه اثنين على تأويل المشار إليه بالمذكور كما تقدم في نظيره في سورة البقرة.
و{كيد الكافرين} هو قصدهم الإضرار بالمسلمين في صورة ليست ظاهرها بمضرة، وذلك أن جيش المشركين الذين جاءوا لإنقاذ العِير لمّا علموا بنجاة عيرهم، وظنوا خيبة المسلمين الذين خرجوا في طلبها، أبوا أن يرجعوا إلى مكة، وأقاموا على بدر لينحروا ويشربوا الخمر ويضربوا الدفوف فرحًا وافتخارًا بنجاة عيرهم، وليس ذلك لمجرد اللهو، ولكن ليتسامع العرب فيتساءلوا عن سبب ذلك فيخبروا بأنهم غلبوا المسلمين فيصرفهم ذلك عن إتباع الإسلام، فأراد الله توهينهم بهزمهم تلك الهزيمة الشنعاء فهو موهن كيدهم في الحال وتقدم تفسير، الكيد عند قوله تعالى: {وأملي لهم إن كيدي متينٌ} في سورة [الأعراف: 183].
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر {مُوَهِّنٌ} بفتح الواو وبتشديد الهاء وبالتنوين ونصب {كيدَ}، وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وخلف، ويعقوب، {مُوهِنٌ} بتسكين الواو وتخفيف الهاء ونصب {كيد} والمعنى على القراءتين سواء، وقرأ حفص عن عاصم بإضافة {مُوهِنٌ} إلى {كيد}، والمعنى وهي إضافة لفظية مساوية للتنكير. اهـ.

.قال الشعراوي:

{ذلكم} إشارة إلى أن الأمر كان كذلك، وسبحانه وتعالى هنا يخبرنا أنه موهن كيد الكافرين، أي يضعف هذا الكيد، ولسائل أن يقول: لماذا لا ينهاهم؟ ولماذا يضعف الكفر فقط؟ ونقول: إن إضعاف الكفر يُهَيّج على الإيمان ويحبب المؤمنين في الإيمان حين يرون آثار الكفر التي تفسد في الأرض وهي تضعف، ولأن الحمية الإيمانية تزيد حين يهاج الإسلام من خصومه. إذن فبقاء الكفر لون من استبقاء الإيمان. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)}
الزحف: الدنوّ قليلًا قليلًا، وأصله الاندفاع على الإلية.
ثم سمي كل ماش في الحرب إلى آخر زاحفًا.
والتزاحف: التداني والتقارب.
تقول زحف إلى العدوّ زحفًا، وازدحف القوم، أي مشى بعضهم إلى بعض، وانتصاب {زحفًا} إما على أنه مصدر لفعل محذوف، أي تزحفون زحفًا، أو على أنه حال من المؤمنين، أي حال كونكم زاحفين إلى الكفار، أو حال من الذين كفروا، أي حال كون الكفار زاحفين إليكم، أو حال من الفريقين، أي متزاحفين.
{فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار} نهى الله المؤمنين أن ينهزموا عن الكفار إذا لقوهم، وقد دبّ بعضهم إلى بعض للقتال، فظاهر هذه الآية العموم لكل المؤمنين في كل زمن، وعلى كل حال، إلا حالة التحرّف والتحيز.
وقد روي عن عمر، وابن عمر، وابن عباس، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وأبي نضرة، وعكرمة، ونافع، والحسن، وقتادة، وزيد بن أبي حبيب، والضحاك: أن تحريم الفرار من الزحف في هذه الآية مختص بيوم بدر.
وأن أهل بدر لم يكن لهم أن ينحازوا، ولو انحازوا لانحازوا إلى المشركين، إذ لم يكن في الأرض يومئذ مسلمون غيرهم، ولا لهم فئة إلا النبي صلى الله عليه وسلم.
فأما بعد ذلك فإن بعضهم فئة لبعض.
وبه قال أبو حنيفة، قالوا: ويؤيده قوله: {وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} فإنه إشارة إلى يوم بدر.
وقيل إن هذه الآية منسوخة بآية الضعف.
وذهب جمهور العلماء إلى أن هذه الآية محكمة عامة غير خاصة، وأن الفرار من الزحف محرّم، ويؤيد هذا أن هذه الآية نزلت بعد انقضاء الحرب في يوم بدر.
وأجيب عن قول الأوّلين بأن الإشارة في {يَوْمَئِذٍ} إلى يوم بدر بأن الإشارة إلى يوم الزحف كما يفيده السياق، ولا منافاة بين هذه الآية وآية الضعف.
بل هذه الآية مقيدة بها، فيكون الفرار من الزحف محرمًا بشرط ما بينه الله في آية الضعف، ولا وجه لما ذكروه من أنه لم يكن في الأرض يوم بدر مسلمون غير من حضرها، فقد كان في المدينة إذ ذاك خلق كثير لم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج، لأنه صلى الله عليه وسلم ومن خرج معه لم يكونوا يرون في الابتداء أنه سيكون قتال.
ويؤيد هذا ورود الأحاديث الصحيحة المصرّحة بأن الفرار من الزحف من جملة الكبائر كما في حديث: «اجتنبوا السبع الموبقات»، وفيه: «والتولي يوم الزحف» ونحوه من الأحاديث، وهذا البحث تطول ذيوله وتتشعب طرقه، وهو مبين في مواطنه.
قال ابن عطية: والأدبار جمع دبر، والعبارة بالدبر في هذه الآية متمكنة في الفصاحة لما في ذلك من الشناعة على الفارّ والذمّ له.
قوله: {إِلاَّ مُتَحَرّفًا لّقِتَالٍ} التحرف: الزوال عن جهة الاستواء.
والمراد به هنا التحرّف من جانب إلى جانب في المعركة طلبًا لمكائد الحرب، وخداعًا للعدوّ، وكمن يوهم أنه منهزم ليتبعه العدوّ، فيكرّ عليه ويتمكن منه، ونحو ذلك من مكائد الحرب، فإن الحرب خدعة.
قوله: {أَوْ مُتَحَيّزًا إلى فِئَةٍ} أي: إلى جماعة من المسلمين، غير الجماعة المقابلة للعدوّ.
وانتصاب {متحرّفًا} و{متحيزًا} على الاستثناء من المولين، أي ومن يولهم دبره إلا رجلًا منهم متحرّفًا أو متحيزًا.
ويجوز انتصابهما على الحال، ويكون حرف الاستثناء لغوًا لا عمل له.
وجملة {فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مّنَ الله} جزاء للشرط.
والمعنى: من ينهزم ويفرّ من الزحف، فقد رجع بغضب كائن من الله إلاّ المتحرّف والمتحيز.
{وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ} أي: المكان الذي يأوي إليه هو النار.
ففراره أوقعه إلى ما هو أشدّ بلاء مما فرّ منه وأعظم عقوبة.
والمأوى: ما يأوى إليه الإنسان {وَبِئْسَ المصير} ما صار إليه من عذاب النار.
وقد اشتملت هذه الآية على هذا الوعيد الشديد لمن يفرّ عن الزحف، وفي ذلك دلالة على أنه من الكبائر الموبقة.
قوله: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ} الفاء جواب شرط مقدّر، أي إذا عرفتم ما قصه الله عليكم من إمداده لكم بالملائكة، وإيقاع الرعب في قلوبهم، فلم تقتلوهم ولكنّ الله قتلهم بما يسره لكم من الأسباب الموجبة للنصر.
قوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى} اختلف المفسرون في هذا الرمى على أقوال: فروي عن مالك أن المراد به: ما كان منه صلى الله عليه وسلم في يوم حنين، فإنه رمى المشركين بقبضة من حصباء الوادي، فأصابت كل واحد منهم.
وقيل المراد به: الرمية التي رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيّ بن خلف بالحربة في عنقه، فانهزم ومات منها.
وقيل المراد به: السهم الذي رمى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حصن خيبر، فسار في الهوى حتى أصاب ابن أبي الحقيق، وهو على فراشه.
وهذه الأقوال ضعيفة، فإن الآية نزلت عقب وقعة بدر.
وأيضًا المشهور في كتب السير والحديث في قتل ابن أبي الحقيق: أنه وقع على صورة غير هذه الصورة.
والصحيح كما قال ابن إسحاق وغيره، أن المراد بالرمي المذكور في هذه الآية هو: ما كان منه صلى الله عليه وسلم في يوم بدر، فإنه أخذ قبضة من تراب فرمى بها في وجوه المشركين، فأصابت كل واحد منهم ودخلت في عينيه ومنخريه وأنفه.
قال ثعلب: المعنى {وَمَا رَمَيْتَ} الفزع والرعب في قلوبهم {إِذْ رَمَيْتَ} بالحصباء فانهزموا {ولكن الله رمى} أي: أعانك وأظفرك، والعرب تقول: رمى الله لك، أي أعانك وأظفرك وصنع لك.
وقد حكى مثل هذا أبو عبيدة في كتاب المجاز.
وقال محمد بن يزيد المبرد: المعنى {وَمَا رَمَيْتَ} بقوّتك {إِذْ رَمَيْتَ} ولكنك بقوّة الله رميت.
وقيل المعنى: إن تلك الرمية بالقبضة من التراب التي رميتها لم ترمها أنت على الحقيقة، لأنك لو رميتها ما بلغ أثرها إلا ما يبلغه رمي البشر، ولكنها كانت رمية الله، حيث أثرت ذلك الأثر العظيم، فأثبت الرمية لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن صورتها وجدت منه، ونفاها عنه، لأن أثرها الذي لا يطيقه البشر فعل الله عزّ وجلّ، فكأن الله فاعل الرمية على الحقيقة، وكأنها لم توجد من رسول الله صلى الله عليه وسلم أصلًا، هكذا في الكشاف.
قوله: {وَلِيُبْلِىَ المؤمنين مِنْهُ بَلاء حَسَنًا} البلاء ها هنا: النعمة.
والمعنى: ولينعم على المؤمنين إنعامًا جميلًا.
واللام متعلقة بمحذوف، أي وللإنعام عليهم بنعمه الجميلة فعل ذلك لا لغيره، أو الواو عاطفة لما بعدها على علة مقدرة قبلها، أي ولكن الله رمى، ليمحق الكافرين، وليبلي المؤمنين منه بلاءً حسنًا.